بسم الله الرحمن الرحيم
إن من أدَق الموضوعات التي يهتم لها المؤمن ، هذا الصراع المستمر بين أن يلبي حاجة ، وبين أن يطبّق أمراً
ما مِن يومٍ وما من ساعةٍ ، وما من دقيقة إلا وأنت بين شيئين :
بين أن تطيع ، و بين أن تستجيب لنَزعة أو رغبة أو ميلٍ أو هوى
الصبر عن الشهوة أسهل ألف مرَّة من الصبر على ما توجبه الشهوة
ألا يا ربّ شَهْوة ساعة أورَثَتْ حزْناً طويلا
و لكن أي نوع من الشهوة ؟ طبعاً الشهوة المحرَّمة.
قال تعالى :
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . القصص 50
المعنى أن المُخالف الذي يتَّبع هواه وفق هدى الله لا شيء عليه ؛ اِشتهى المرأة فتزوج، واشتهى المال فعمل عملاً شريفاً ، واشتهى أن يكون ذا سمعة طيبة فأطاع الله عز وجل فهو حقق كل هذه الشهوات وفق منهج الله تعالى ، فالإسلام لا حرمان فيه ، هناك تنظيم، وطهارة ونظام وراحة نفسِية عقب كل شهوة يفعلها الإنسان وفق منهج الله ، مثلاً : الإنسان قد يُقارب زوجته ويصلي قيام الليل ، ويبكي في قيام الليل لأنه ما فعل شيئاً خلاف منهج الله.. أما إن ملأ عينيه من محاسن امرأة أجنبية لا تحل له يُحجَبُ عن الله ، نظرةٌ فقط تحجب ، و علاقة كاملة لا تحجب !!
هذه وفق منهج الله ، وتلك على خلاف منهج الله ، فالصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبُه الشهوة .
ماذا توجب الشهوة ؟
إما أن توجب ألماً وعقوبة
وإما أن تقطع لذةً أكمل منها
وإما أن تجلب هما وغماً وحزناً وخوفاً لا يُقارب لذة الشهوة
فممكن للإنسان أن يغلط إلا أنه بعد هذا ستكون فضيحة وانهيار نفسي ..
وبعدُ ، فانطلاقاً من حبك لنفسك وحرصاً على سلامتها و سعادتها :
أطِعْ أمْرَنا نرْفع لأجْلك حُجْبنا فإنا منَحْنا بالرِّضى من أحبَّنا
ولُذْ بِحِمانا واحْتَمِ بِجَنابِنــا لِنَحْميك مما فيه أشْرار خلقنا
وعن ذِكْرنا لا يشْغلَنَّكَ شاغِلٌ وأخْلِص لنا تلقَ المَسَرَّة والهنا
وسَلِّمْ إلينا الأمْر في كلِّ ما يكن فما القرب والإبْعاد إلا بِأمْرنا
هذا الأمر يقتضي موضوعاً آخر، أساسه قوله تعالى :
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . البقرة 216
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا . النساء 19
والله أيها الإخوة هذه وحدها تكفي المؤمن ، إذ تُلقي في قلبه طُمأنينةً ورضى بما قدَّر الله له !
فالآية الأولى في الجهاد وهو كمال القوة ، والآية الثانية في النكاح وهو كمال الشهوة، فالإنسان يعتزّ بِقوته وشهوته ، والعبد يكره أن يواجه العدو بقوته خشيةً على نفسه ، وهذا المكروه خيرٌ له في معاشه ومعاده.. و يحب الموادعة والمتاركة ، وهذا المحبوب شرّ له في معاده ومعاشه .
لا ينبغي أن تجعل أيها الإنسان المعيار على ما يضركَ وينفعك ميلك وحبك ، ونفرتك وبغضك ، بل المعيار على ذلك ما اختاره الله لك.
لو أن الله سبحانه وتعالى كشف لك عن حكمهِ ماساقهُ إليك مِن مرضٍ أو من خوفٍ أو من فقْرٍ أو من مشكلةٍ أُسرِية أو من مشكلة في العمل لَذابت نفسكَ كالشمعة حباً منك له سبحانه وتعالى !
يجب أن تعلم أنه ما من مصيبة على وجه الأرض إلا ولها حكمة بالغة، لكن لا تجد من يعرف حِكَم المصائب.
هناك مبدأ عام :
كل شيء يقع أراده الله ، وإرادته متعلقة بِحكمته المطلقة ، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق
أنفع الأشياء للإنسان على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه ، من دون تردد أو تريث أو توقف أطع الله ..
مقابلها أسعد شعور و أعلى درجة نفسية أن تشعر أنك في طاعة الله تعالى ، فمن صحَّت معرفته بربه وتمكن من التفقه في أسمائه وصفاته علم يقيناً أن المكروهات التي تصيبهُ والمحن التي تنزل به فيها ضروب مصالحه ومنافعه التي لا يُحصيها، بل إن عامة مصالح النفوس في مكروهاتها ، كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها.
الحزن خلاق أما النعيم فلا يخلق شيئاً في الإنسان
أحياناً الخوف يقربك من الله ، و أحياناً الفقر يجعلك تبكي من أجل أن تنفق شيئاً في سبيل الله ؛ قال تعالى :
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ . التوبة 92
وبعد، فهناك مثل جميل جداً يوضح قوله تعالى :
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . البقرة 216
انظر إلى غارس جنةٍ من الجنات، وهو البستان ، خبير بالفلاحة ، غرس أشجاراً وتعاهدها بالسقيِ والإصلاح حتى أثمرت أشجارها ، فأقبل عليها يفصل أوصالها ، ويقطع أغصانها لعلمه أنها لو تركت على حالها لم تطب ثِمارها ، والتقليم بتر بعض أغصانها الضعيفة وهو الذي يجعل ثمارها يانعة ، فَيُطَعِّمُها من شجرة طيبة الثمرة حتى إذا الْتَحَمَتْ بها واتَّحَدَت وأعطتْ ثَمَرَتها ، أقبل يُقَلِّمُها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تُذهبُ قوَّتها ، ويُذيقها ألَمَ القطْع والحديد لِمَصْلَحَتِها وكمالها لِتَصْلُحَ ثَمَرَتها أن تكون بِحَضرة الملوك ، ثم لا يدعها و دواعي طبعها الشرب كل وقتٍ بل يُعطشها وقتاً ، ويسقيها وقتاً ، والإخوة المُزارِعون يعرفون هذا الأمر ، هناك شيء إذا عَطَّشْتهُ يجود ثَمَرُه ، ولا يترك لها الماء دائِماً وإن كان ذلك أنضر لوَرقِها ، وأسرع لنباتها بل يعمد لِتِلْك الزِّينة التي زُيِّنَت بها من الأوراق فَيُلْقي عنها كثيراً منها، ويساقط الأوراق حتى لا تستهلك الغذاء وينقلب الغذاء للثَّمرة ، لأن تلك الزينة تحول بين ثمرها وبين نضجها واستوائِها كما في شجر العِنب ونحوِه فهو يقطع بعض أعضائها بالحديد ، ويُلقي عنها كثيراً من زينتها ، وذلك عينُ مصلحتها ، فلو أنها ذات تمييز كالحيوان لَتوهمَت أن ذلك إفسادٌ لها ، وإضرارٌ بها ، وإنما هو عين مصلَحتها.
أحكم الحاكمين ، وأعلم العالمين ، وأرحم الراحمين ، وهو الذي أرحم بعباده منهم من أنفسهم ، ومن آبائهم وأُمهاتهم إذا أنزل بهم ما يكرهون كان لهم خيراً من ألّا يُنزله بهم ، نظراً منه لهم وإحساناً إليهم ولطفاً بهم ؛ والدعاء النبوي الشهير:
ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي وغمي ، إلا أذهب الله همه وغمه ، وأبدله مكانه فرجا . قالوا يا رسول الله : ألا نتعلمهن ؟ قال : بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن. حديث صحيح
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم السائب ، أو أم المسيب . فقال " مالك ؟ يا أم السائب ! أو يا أم المسيب ! تزفزفين ؟ " قالت : الحمى . لا بارك الله فيها . فقال " لا تسبي الحمى . فإنها تذهب خطايا بني آدم . كما يذهب الكير خبث الحديد ". حديث صحيح
عجبا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن . إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له . و إن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له. حديث صحيح
فالله هو رب العالمين وهو المربي وما عليك إلا أن تفهم تربِيتهُ لك ، وقد تجد أن المنع عينُ العطاء ، ربما منعك فأعطاك و ربما أعطاك فمنعك .
والحمد لله رب العالمين
مقتطفات من درس للدكتور محمد راتب النابلسي
…
جزاك الله خير ونفع بك
بانتظار جديدك دوما..
جزاك الله خير وجعله فى موازين حسناتك
قطر داري
نورتوو
.,