قلوب مشتاقة، ونفوس ظمأى، وأرواح متلهفة تنتظر ضيفاً كريماً من عام إلى عام.. إنه شهر رمضان .. شهر السعادة الحقيقية؛ حيث تتحرر القلوب شهراً كاملاً لتحلق في آفاق بلا حدود ..
إنها أيام كأنها ليست من أوقات الدنيا، يشعر الإنسان في لحظات منها كأنه يحلق في السماء, كأنه يرى الجنة رأي العين وقد فتحت أبوابها, يتذوق فيها حلاوة المنجاة ولذة الدعاء والابتهال، جو إيماني عظيم يتناثر شذاه على قلوب أهل الإيمان والاحتساب.
فبأي حال سنعيش رمضان؟
سؤال يتبادر دائماً إلى ذوي النفوس الكبيرة والهمم العالية، مما يدعونا إلى إعادة ترتيب أولوياتنا، والتفتيش في دواخلنا، والتجرد في مقاصدنا.
أين الذي عرف قيمة هذا الشهر فأطلق لقلبه العنان, فنطق اللسان:" أنا لها…أنا لها ".
أناس كثيرون كانت عودتهم إلى الله في رمضان.. فكان رمضان محطة تحول في حياتهم, انطلقوا منه إلى الله والقرب منه، فكان علامة فارقة في حياتهم .
فلماذا لا نجعل رمضان هذا العام علامة فارقة في حياتنا؟
فليكن هذا الشهر ثورة على العادات السيئة وتحكم الهوى داخل نفوسنا، لنجعل من ليالي رمضان الكريم فرصة لتقوية الإيمان وتدبر القرآن والبكاء من خشية الله والدعاء والتوبة.
ولكن كيف؟؟
لابد أن نضع أمامنا دائما الهدف من الصيام ونسعى إلى تحقيقه, ونسأل أنفسنا لماذا فرض علينا الصيام ؟ وما الهدف منه؟
والإجابة على هذه التساؤلات تأتي في آية من القرآن، وهي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة
فالتقوى هي الهدف المحصل من هذا الشهر الكريم، ولكن القليل من يصوم وهو يحمل معه هذا الهدف، وأقل القليل من يصوم وهو يعمل لتحقيق هذا الهدف.
يقول ابن رجب في كتاب لطائف المعارف: (وكثير من الناس يمشي على العوائد دون ما يوجبه الإيمان ويقتضيه، فلهذا كثير منهم لو ضُرب ما أفطر في رمضان لغير عذر، ومن جهّالهم من لا يفطر لعذر ولو تضرر بالصوم، مع أن الله يحب منه أن يقبل رخصته جريا على العادة، وقد اعتاد مع ذلك على ما حرم الله, فهذا يجري على عوائده في ذلك كله لا على مقتضى الإيمان)
فالغاية من الصيام هي تحقيق التقوى وليس الإمساك عن الطعام والشراب مع مخالفة تقواه, بل إن الله غني عن صيام هذه الطائفة، وفي الحديث: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري
وللتقوى معان كثيرة أشدها وضوحاً وملامسة لواقع الحياة أن التقوى : هي أن لا يفتقدك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك .
إن الله أمرنا أن نصلي الصلاة في أوقاتها ..فلا يفقدنا حيث أمرنا.
أمرنا ببر الوالدين، بأداء الأمانة، بالصدق، بالحجاب .. فلا يفتقدنا حيث أمرنا .
ونهانا الله عن مواطن المعصية، عن الكذب، عن الخيانة.. فلا يجدنا حيث نهانا.
ومما تجدر الإشارة إليه أننا بشر ولن نستطيع تحقيق التقوى كاملة ولكن " سددوا وقاربوا " واتبعوا قاعدة {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}… واعلموا أن ( من يتحرى الخير يعطه ومن يتوقى الشر يوقه) . فاليوم عمل يرفعنا درجة، وغداً آخر يرفعنا درجات أعلى من التقوى .. وهكذا في ازدياد.
ومن اقترب كاد أن يصل، وحينها يشعر الإنسان بما لم يشعر به من قبل حتى يغمر قلبه الأنس والرضا ويتذوق برد اليقين, فكأنه يرى الرحمة والمغفرة والعتق من النار.
إن الذي سدد وقارب واجتهد وبذل .. سيكون بعد رمضان إنساناً آخر، حريصاً على ألاّ يفقده الله حيث أمره ولا يجده حيث نهاه..
ما السبب الذي يجعل الصيام يؤدي إلى التقوى ؟
الجواب : أن الصيام يقوي في النفس أموراً ويضعف فيها أموراً أخرى ..
وهذا هو السر الذي يجعل الصيام طريقاً سهلاً ميسراً للتقوى.
فالصيام يضعف سيطرة البدن على الروح، فتتحرر من براثن الجسد، وحينئذ يكون الحصول على التقوى أمراً سهلاً طالما سمت الروح، وكأن حال القلب يقول : "وانكسر القيد يا روح… انطلقي واسبحي واقتربي من الله ".
والأمر الثاني الذي يضعفه الصيام أو لنقل يضبطه .. هو الشهوة .
يقول علماء النفس (إن الشهوة هي المحرك الأساس للسلوك الإنساني )
فيأتي الصيام فيضبط هذه الغريزة وينظمها، وبهذا يصبح السير سهلاً على درب التقوى.
وكما جاء في الحديث يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فهو له وجاء) رواه البخاري
أما عن الأمور التي يقويها الصيام فهي : استشعار مراقبة الله تعالى، ومجاهدة النفس في الطاعة؛ حيث إن الصائم وهو مستشعر معية الله، وأنه سميع عليم لا يخفى عليه شيء من أمره، لا يمكن أن تسول له نفسه تناول جرعة ماء أو لقمة طعام مهماً جاع وعطش وخفي عن أعين الناس، حتى ماء المضمضة الذي يضعه في فيه لا يراه إلا الله، يجتهد ألّا يدخل…
جعل الله ما قدمتيه في ميزان حسناتك
بارك الله فيك وانار دربك وقلبك بنور الهدى
جزاك الله خيرا
جزاك الله خير الجزاء