المعنى الأول:
أن الصوم مرتبط بالإيمان الحق بالله جل وعلا؛ ولذلك جاء أن الصوم عبادة السر، لأن الإنسان بإمكانه ألاّ يصوم إن شاء، سواء بأن يتناول مأكولاً أو مشروبًا، أو بمجرد فقد النية، وإن أمسك طوال النهار.
إذن فالصوم عبادة قلبية سرية بين العبد وربه، فإن امتناع العبد عن المفطرات على الرغم من استطاعته الوصول إليها خفية دليل على استشعاره اليقيني لاطلاع الله تعالى على سرائره وخفاياه، وفي ذلك -بلا ريب- تربية لقوة الإيمان بالله – جل وعلا- وهذا السر الإيماني يجري في سائر العبادات التي يتقرب بها العبد إلى خالقه سبحانه.
انظر إلى الوضوء والغسل، اللذينِ يتطهر بهما العبد من الأحداث، فإن فيهما دلالة على إيمان العبد بأن الله تعالى رقيب عليه؛ مما يحمله على أداء تلك الأمانة السرية بينه وبين ربه، ولو أتى إلى الصلاة بدون طهور لما علم الناس بذلك.
انظر إلى الصلاة، ألا ترى أن المصلي يقرأ في قيامه الفاتحـة، وفي ركوعه يقول: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده يقول: سبحان ربي الأعلى، وفي جلوسه بين السجدتين يقول: رب اغفر لي، وفي التشهد يقول: التحيات لله.. الخ، وكل هذا يقوله سرًا لا يسمعه مجاوره الملتصق به، أتراه لو لم يكن مؤمنًا بعلم الله تعالى بهمسات لسانه، وخواطر ذهنه، ووساوس قلبه، أتراه يدعو ويذكر الله سبحانه وتعالى في صلاته بهذه السرية، التي لا يطّلع عليها إلا ربه –سبحانه-( وَإنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) [طه: 7].
أن الصيام يربَّي العبد على التطلع إلى الدار الآخرة، حيث يتخلى عن بعض الأمور الدنيوية؛ تطلعًا إلى ما عند الله تعالى من الأجر والثواب؛ لأن مقياسه الذي يقيس به الربح والخسارة مقياس أخروي، فهو يترك الأكل والشرب والملذات في نهار رمضان؛ انتظارًا للجزاء الحسن يوم القيامة، وفي ذلك توطين لقلب الصائم على الإيمان بالآخرة، والتعلق بها، والترفع عن عاجل الملاذ الدنيوية، التي تقود إلى التثاقل إلى الأرض، والإخلاد إليها.
هذا مع ما له في الصـوم من النعيم، والحياة الطيبـة في الدنيـا: من صحـة البدن، وفرح القلب بالطـاعة، والسعادة، وانشراح الصدر بالإيمان.
أما أصحاب المقاييس المادية الدنيوية، فإنهم ينظرون إلى الجانب الدنيوي القريب في الصوم؛ فلا يرونه إلا حرماناً من لذة الأكل والشرب والوقاع، التي تحصل بها سعادة للنفس، وتلبية لحاجات الجسد. ولا ينظر هؤلاء إلى الجانب الأخروي، الذي يمثل الجزاء الحقيقي، والخلود الصحيح؛ مما يعدم أو يضعف في قلوبهم التطلع إلى الآخرة وما فيها من النعيم.
أن في الصيام تحقيقًا للاستسلام والعبودية لله جل وعلا؛ إذ الصوم يربي المسلم على العبودية الحقة، فإذا جاء الليل أكل وشرب؛ امتثالاً لقول ربه الكريم ( وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ) [البقرة: 187]؛ ولهذا كان مستحبًا أن يأكل الصائم عند الإفطار وعند السحور، وكره الوصال، فالأكل – حينئذ- عبادة لله.
وإذا طلع الفجر أمسك عن الأكل والشرب، وسائر المفطرات؛ امتثالاً لأمر الله تعالى { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلى الَّيْلِ } [البقرة: 187].
وهكذا يتربى المسلم على كمال العبودية لله، فإذا أمره ربه تعالى بالأكل في وقت معين أكل، وإذا أمره بضد ذلك في وقت آخر امتثل، فالقضية ليست مجرد أذواق وشهوات وأمزجة، وإنما هي طاعة لله تعالى، وتنفيذ لأمره.
وإن العبودية لله سبحانه لهي الحرية الحقيقية، وكمال الحرية في كمال العبودية له تعالى، ولذلك قال عياض -رحمه الله-:
ومــما زادني شرفــًا وتيهـا *** وكـدت بأخمصـي أطأ الثريـا
دخولي تحت قولك:"يا عبادي " *** وأن صيَّـرت أحمـد لـي نبيـا
ويقول الآخر:
أطعتُ مطامعي؛ فاستعبدتْــني *** ولو أني قنعـتُ لكنـت حـرَّا— وهذا المعنى متحقق في الصلاة والحج وغيرهما، فالعبد في صلاته حينًا يقف، وحينًا يركع، وحينًا يسجد، وحينًا يقعد؛ لأن هذا هو أمر الله ومراده، فيحقق المصلي العبودية بامتثاله.
وفي حجه لا ينهى عن الأكل والشرب، لكنه ينهى عن محظورات أخرى يجب على المحُرِم تجنُّبها: من جماع، ودواعيه، ومن تغطية الرأس، والطيب، وتقليم الأظافر، وقص الشعر.. فيجب عليه تجنبها؛ لأن الله تعالى أراد منه ذلك. ولو امتنع عن شيء لم يمنعه الله منه -كالأكل والشرب-، معتقدًا أن ذلك لأجل الإحرام لكان مبتدعًا، كما أنه لو فعل شيئًا من محظورات الإحرام كان مخطئًا.
فإذا انتهى إحرامه كان مطالبًا بأن يحلق رأسه أو يقصره، وأن يغتسل ويتزين ويتطيب ويقلم أظفاره ( ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُم) [الحج: 29].
هكذا يتربى المؤمن على معنى الاستسلام والعبودية لله تعالى، بحيث يأمره بالشيء؛ فيمتثل، ويأمره بضده؛ فيمتثل، سواء أدرك الحكمة أو لم يدركها.
وذلك أن الصائم حين يرى الناس من حوله صيامًا كلهم؛ فإن الصوم يكون يسيرًا عليه، ويحس بالتلاحم مع المجتمع الذي يربطه به جانب عبادي، يلتقي عليه الجميع.
إن الذي يقارن بين صوم النافلة وصوم رمضان يجد أن في صوم النافلة شيئًا من الكلفة، بينما يجد أن صوم رمضان المفروض يسير سهل، لا كلفة فيه، ولا مشقة؛ للسبب الذي سلف ذكره، حيث إن الصائم في رمضان لا يرى حوله إلا صائمين مثله، فإن خرج إلى السوق وجد الناس فيه صيامًا، وإن دخل البيت وجد أهله صيامًا، وإن ذهب إلى دراسته أو عمله وجد الناس صيامًا.. وهكذا، فيشعر بمشاركة الجميع له في إمساكه؛ فيكون ذلك عونًا له، ومنسيًا له ما قد يجده من المشقة؛ ولذلك نجد المسلمين الذين يدركهم رمضان في بلاد كافرة دفعتهم الضرورة للذهاب إليها، إما لمرض أو لغيره، نجدهم يعانون مشقة ظاهرة في صيام رمضان؛ لأن المجتمع من حولهم مفطرون، يأكلون ويشربون، وهم مضطرون لمخالطتهم.
إذن ، فشعور الصائم بأن الناس من حوله يشاركونه عبادته، يخفف عليه أمر الصوم، ويعينه على تحمله بيسر وسهولة، وهذا الأمر ملحوظ، حتى في المجتمعات التي لم يبق فيها إلا بقايا قليلة للإسلام، فإنك تجد آثار رمضان ظاهرة على الجميع، حتى الفساق في ذلك المجتمع الذي غلـب عليه الفساد يظهر عليهم أثر هذا الشهر الكريم، وفي ذلك تربية للمجتمع بجملته.
ومن هنا كانت عناية الإسلام بإصلاح المجتمعات عناية كبيرة، فالفساد بصفته حوادث فردية، لا مناص من وقوعه في المجتمع، وقد وقع شيء من تلك الحوادث الفردية في مجتمع الصحابة الأطهار، فكان هناك مَن سَرَق، ومَن شرب الخمر، ومَن زنا.. فهذا الأمر لابد من وقوعه، لكن الذي لا يصح أن يقع في المجتمع المسلم هو: أن تعلن المنكرات ويجاهر بها؛ فيتلوث المجتمع العام، ويصبح من العسير على الفرد الذي يريد طريق الخير أن يهتدي؛ لأن المجتمع يضغط عليه، ويثنيه عن غايته.
فتربية المجتمع من مقاصد الإسلام، والصوم من وسائل ذلك، وأثره في ذلك المجال واضح، ولعل من مظاهر ذلك- إضافة إلى ما سبق- أنك تجد صغار السن في المجتمع يصومون، وتجد أهل الفسق يستسرون بالعصيان، وترى الكفار لا يعلنون الأكل والشرب.
ذكرى
اغتنم – يا أخي- أيام هذا الشهر الكريم، ولياليه، وساعاته؛ في الاستزادة من الخير، والإقبال على القرب، فإن العاقل الحازم لا يفرط في مواسم الخيرات، بل يغتنم الفرص، ويتعرض لنفحات الله، ويتزود ليوم الرحيل، ومن يدري – يا أخي- لعلك مكتوب في سجلَّ الموتى في هذا العام، فالبدارَ البدار، ما دمت في زمن الإمكان. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله تعالى وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. |
الله ليتنا نجعل هذه الذكرى أمامنا دائماً …!!؟
أختي الداعية " اليقين "
جهدك راقي جداً ….
واصلي هذا العمل المميز فنحن بحاجة لأقلام مثل قلمك .
دمتي بودّ….,؛
جزاكِ الله عنا خيــــــــــــــــراً
وبارك فيـــــــــــــــــــــــــــــــكِ
وبارك الله فيكم وسدد خطاكم..