بقلم : عبدالعزيز الحشاش
– متسلطة .. متعجرفه .. جافه .. جامدة .. ماذا أقول لك أكثر؟ أكرهها
نزل الكلام على ( منار ) كالصاعقة، وأنا لا ألومها، فهو فعلا كلام كبير و معلومات كثيرة تلقتها من خلال هذه الجملة التي رددتها لها ( سهام ) السكرتيرة الأخرى التي تعمل في نفس المكتب معها عن مديرة قسمها .
منار خريجة حديثة من المعهد التجاري، تخصص سكرتارية. وبمجرد تخرجها رفرفت الأحلام في خيالها حول وظيفتها الجديدة، فكانت تعد الأيام والليالي حتى تلحق في ركب العمل، فهي لا تطيق صبرا أن تنزع عن نفسها لقب طالبة و تدخل عالم الموظفين. وككل مقبل على العمل سمعت منار الكثير عن خبايا و أسرار و مشاكل الموظفين في الإدارات. ولكن ما لا يخطر على بالها أن تسمع ما سمعته من سهام عن مديرتها – التي لم تلتق بها بعد – في أول يوم عمل لها.
كانت تعتقد منار بأن مديرتها ما هي إلا امرأة تحتاج لفرض نفوذها على الموظفين العاملين في قسمها حتى تستطيع السيطرة على مجرى العمل. ولكن بمجرد أن قابلت منار مديرتها عرفت تماما ما كانت تتحدث عنه سهام .. فهذه المرأة فعلا متعجرفة.
كانت المديرة ترمق موظفيها بنظرات متعالية، قليلة الكلام، جافة في الحديث، تأمر ولا تطلب، تنهر ولا تعاتب، تخصم من مرتب من يعارضها ولا تعتذر ..!
هذه المرأة مثال للصلابة و القوة و البرود و الغرور ..
احتارت منار، هل تتهرب من مواجهة مديرتها حتى لا تحتك بها؟ ولكن كيف؟ فهي سكرتيرتها المباشرة ! .. إذا ما السبيل إلى كسب ودها و ثقتها و عدم التصادم معها؟ فمنار تعرف نفسها جيدا .. انفعالية .. متمردة .. لا تستطيع السيطرة على أعصابها.
يوم بعد يوم، نجحت منار بالتقرب من مديرتها وكسبها، كانت تؤدي عملها على أكمل وجه، وقبل أن تطلب مديرتها كانت منار تنفذ .. وبكل سرور.
تقرب منار من مديرتها جعلها تعرف الكثير عنها .. وأول معلومة تلقتها هي أنها لم تكن امرأة عانس كما أشيع عنها .. بل كانت مطلقة .. ووحيدة .. لم تنجب .. وتعيش انكسار فشلها في تجربة الزواج .. ومن هنا أتت فكرة منار العبقرية للتقرب أكثر من مديرتها .. فأخذت توسع من حدود صداقتها معها .. وبدأت تخالطها خارج حدود العمل .. فتخرجان معا للتسوق .. والسينما .. والمسرح .. والكافيه .. والمطاعم .. حتى أنها استعانت بصديقاتها المقربات ممن يدمن على قراءة الفنجان حتى تحصل منهن على أرقام بعض قارئات الطالع وتدفع لهن من حسابها الخاص ليقرأن الطالع السعيد لمديرتها .. ولا تنسى طبعا أن تدفع المبلغ مضاعفا حتى يسمعن سعادة المديرة الأخبار الطيبة من قاع الفنجان و بين خطوط كفها ..
ارتاحت المديرة لسكرتيرتها الجديدة .. منار
وأصبحت منار لا تفارقها، فكانت السكرتيرة والساعد الأيمن لها داخل الدوام وخارجه. ولكن يبدو أن تقرب منار من المديرة أثار حفيظة البعض، وأشعل الغيرة في نفوس بعض الموظفين وخصوصا السكرتيرة الأخرى .. سهام.
لم تكن منار تلومهم، فتصرف المديرة مع الجميع استمر على حاله، ولكنه تحسن مع منار فقط .. وهذا شيء طبيعي أن يضايق الموظفون الآخرون.
و في يوم من الأيام، دخل المكتب رجل طويل القامة، عريض المنكبين، وسيم الملامح، نهضت منار فرحة ترحب به .. وقدمته لزملائها في العمل :
– أعرفكم .. يوسف .. خطيبي
رحب به الجميع و جلست منار تتبادل معه الحديث. فجأة .. دخلت المديرة .. نهض الجميع .. بمن فيهم يوسف، نظرت له المديرة بشرود .. فشدها طوله الممشوق، و منكبيه العريضين .. وعيناه الواسعتان. تلعثمت المديرة .. و أحست بجسدها يرتعش ودقات قلبها تدق كطبول تحتفل في يوم عرس، ولأول مرة .. ابتسمت أمام موظفيها.
مع الأيام عرفت المديرة من منار بأن الشاب هو خطيبها، ومع الأيام بدأت منار تنشغل مع هذا الخطيب الجديد. ولكن المديرة لم يعجبها انشغال منار عنها، فأخذت تتصل بها وتطلبها للحضور إليها أينما كانت متعللة بمشكلة تعترضها، مثل حيرتها في اختيار فستان مناسب لحضور عرس صديقة لها، أو شراء أثاث جديد للبيت، أو مشكلة في الكمبيوتر .. وهكذا أخذت منار تلبي طلبات المديرة دون تذمر.
ولكن من بدأ يتذمر من هذا الوضع هو يوسف ..
نعم .. فيوسف بدأ يلاحظ بأن خدمة منار لمديرتها تخطت حدود العمل، وأن ما تقوم به منار ما هو إلا خدمة مجانية لامرأة لا تقدر ظروفها.
وهكذا ضاعت منار بين المديرة وزوج المستقبل، فيوم ترضي هذه و يوم تغضب ذاك .. تعبت .. و أحست بأنها تنقسم لنصفين .. وأخيرا وجدت حلا يرضي الطرفين. بدأت منار تخرج مع خطيبها في مشاويرها التي تقضيها لمديرتها، طبعا يوسف لم يعجبه هذا الوضع ولكنه كان مجبرا، وكانت منار تتحجج بأن خروجهم لهذه المشاوير يقربهما من بعض.
على النقيض كانت المديرة سعيدة جدا، كيف لا وهي تجد نفسها قريبة من خطيب منار، الذي لم يقع نظرها عنه طوال خروجها معهما.
أحس يوسف بالنظرات المتلهفة، والرغبة العارمة لدى المديرة لتكون معه في كل مرة يخرج فيها مع منار، فحذر منار منها، و أخذ يقدم الأعذار والحجج ليتهرب من الخروج مع المديرة .. ولكن منار لم تكن تتوقع أن يحصل ما حصل.
في ليلة من الليالي رن هاتف يوسف .. أجاب .. فأتاه صوت المديرة هادئ ناعما، تسأل عن حاله و تحاول التودد له، فالمرأة الصلبة الجامدة، تحولت بقدرة قادر إلى امرأة تفيض أنوثة و حنان. غضب يوسف وأغلق الخط في وجهها، وفي اليوم التالي نقل الخبر إلى منار ..
ذهبت منار للعمل .. وبمجرد دخول المديرة إلى مكتبها لحقت بها منار وفي يدها ورقة .. وضعت الورقة على المكتب أمام المديرة بوجه جامد و بملامح باردة، استغربت المديرة :
– ما هذا ؟
– ورقة استقالتي .. كان يجب أن أكتفي بوجهك الجامد و معاملتك الجافة حالي من حال جميع الموظفين يا سعادة المديرة ..
– تمت –
يعطيك الف عافيه يالغالي
تحياتي لك
: