باديء ذي بدء ينبغي أن تجرى عملية الفك والتركيب والفهم والتحليل لهذه النصوص من خلال الرؤية الكلية المقاصدية للقرآن الكريم النص الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بحيث يعاد تصنيف هذا النص من خلال المنهج المعتمد في هذه السلسلة؛ باعتبار قربه من إسلام النص أو إسلام التاريخ، ومن حيث مكانته من تقسيم السنة التشريعي، والقيادي، والجبلي، ثم من حيث سلطته عبر دائرة اللازم والمباح.
أولا : الرؤية المقاصدية للقرآنية :
لا يخفى على متدبر للقرآن الكريم بأن خطابه قد مر بمراحل متدرجة حسب تتطور العقل البشري من العقل الغريزي الفطري، إلى الإحيائي التقابلي، إلى التأملي البرهاني (قالوا هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). ثم تدرج الخطاب القرآني الاصطفائي الذي يقوم على دوائر بشرية معينة (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض) ثم توسع الخطاب القرآني رأسيا من آدم وإبراهيم عليهما السلام إلى خلائفهما (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم)، ثم امتد آفقيا إذ يبدأ التخصيص بالعرب كنهاية لمرحلة الأصطفاء والخطاب الحصري (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون)، وإيذانا بتأسيس خطاب عالمي في ذات الوقت (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم). ثم امتد الخطاب العالمي إلى البشرية كافة (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)، (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)، وبذلك ألغي الخطاب الحصري والاصفطائي المرحلي، وحلت مكانه التقوى التي لا تنتقل بالوراثة (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير). فلا شك أن الرجوع إلى الخطاب الحصري والاصطفاني بعد هذا البيان القرآني المبين يعد ضربا من ضروب الاختزالية، وعودة إلى الاصطفائية المنافية لمقاصد التنزيل وأهداف الرسالة الخاتمة التي هي للعالمين كافة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)!!
ثانيا : منهج النبي ونص الحديث:
لا يخفى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قام بنشر قيم ومباديء الإسلام في مراحل الدعوة والتأسيس وأطوار الدولة والتمكين، وبنى صرح الإسلام العظيم بمن أمن بالإسلام من الأصحاب الكرام رضوان الله عليهم، فكان منهم العربي والفارسي والرومي والحبشي، ومنهم القرشي والخزاعي والأوسي والخزرجي والقيسي واليماني وغير ذلك (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قام بأي فعل سياسي باسم قريش أو باسم قبيلة ما، ولم يقم بجمع القبائل من حوله على أساس أنه قرشي، وإنما كنبي وكرسول وحسب، بل أن قبيلته قريش على الجملة تعد من أشد القبائل آذية له وصدا عن دعوته حتى صدق عليهم في التاريخ وصف الطلقاء والمؤلفة قلوبهم!!
إذن لم يكن هنالك خصوصية لقريشي في الإمامة والسياسة لا في نسق آي القرآن ولا في منظومة الحديث، ولعل تصور روايات المساجلة والجدل التي كانت بين أولئك الآخيار من المهاجرين والأنصار يوم السقيفة يعين على هذا الفهم، حيث لم يستدل أحد من أولئك الأخيار بآية من القرآن ولا بحديث وقد كانوا في أمس الحاجة إلى نص يرفع عنهم الخلاف، ويضبط الأمور، ويحفظ الأمة من الانقسام، وإنما كان السائد في تلك المساجلات هي منطق السياسة مراعاة لعملية التوازن بين القوى والعصبة والشوكة وتقدير المصالح ودفع المفاسد، فقال أبو بكر رضي الله عنه نيابة عن المهاجرين: "لن تعرف العرب هذا الأمر، إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا". منطق سياسي وليس تنصيصي، كذلك بادر الأنصار هذا الخطاب السياسي بلغة سياسية كذلك حيث اقترحوا حلا لأزمة الحكم بأن يكون "منا أمير ومنكم أمير".علما بأن جميع الروايات التي تعكس مواقف الصحابة المختلفة يوم السقيفة تشير إلى غياب النص (الأئمة من قريش) غيابا تاما مما يعني أن المسألة برمتها ليست من القواطع التي تفيد الإلزام والوجوب كما ذكر الماوردي!! وربما يكون من المفيد أن نعرف أن عمر رضي الله عنه قد اعتبر بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها المسلمين، كذلك لما أرد أن يستخلف من بعده فقال لو كان سالم مولى حذيفة حيا لاستخلفته عليكم، بمعنى لا اعتبار للقريشية أو العربية أو ما شاكل ذلك إنما الدين والتقوى والكفاءة وهذا هو منطق الوحي ومقاصد الرسالة الخاتمة.
والعجيب الغريب أن ينعقد بعد ذلك الاجماع على ولاية قريش إلى يوم القيامة، وأن يصبح مفهوم القرشية مفهوما دينيا مقطوع به، كما قال النووي في شرحه حديث القرشية: "مستمر إلى يوم القيامة، ما بقي من الناس اثنان. وإنه ظهر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فمن زمنه إلى الآن لم نزل الخلافة في قريش ومن تغلب على الملك بطريقة الشوكة لا ينكر أن الخلافة في قريش وإنما يدعى أن ذلك بطريق النيابة عنهم". (مسلم بشرح النووي)!!
وبهذا الفهم المغلوط تم اعتماد ولاية المتغلب في التاريخ الإسلامي وتقنينها، على الرغم من أن مفهوم القرشية في جل خلافات المسلمين في التاريخ قد تقلصت إلى حد الرمزية كالدعاء لها على المنابر بالخلافة، أما السلطة الفعلية فقد انتقلت إلى المتغلب صاحب الشوكة أيا كان شكله وعرقه ولونه، ففي عهد المتوكل وإخوانه كانت الغلبة للأتراك، والفرس في عهد البويهيين، والترك والمغول في عهد السلاجقة، ثم المماليك والأتراك في عهد العثمانيين . والمضحك أن تستمر مفهوم القرشية إلى يومنا هذا حيث يدعو بعض خطباء الجمعة في مساجد بعض دول أوروبا بالمغفرة للعباس وبنيه مغفرة ظاهرة وباطنة لكونه رمز الخلافة القرشية، وللناس من ورأهم يؤمنون !!
ثالثا : الحديث وتصنيفه :
هب جدلا أن هذا الحديث لا يخالف الرؤية المقاصدية للقرآن الكريم، ولا يخالف منهج النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة التي لم تعرف التفريق بين الناس إلا بالتقوى، ففي أي أقسام السنة يمكن أن نصنف هذا الحديث، أفالسنة (التشريعية) أم السنة (القيادية)أم السنة (الجبلية)(1) وأحسب أنه أقرب إلى أن يصنف ضمن السنة (القيادية) وليس ضمن السنة التشريعية بأعتبار أن السنة التشريعية تقوم بدور البيان لأي القرآن وهذا الحديث ليس به دلالة بيانية، مما يجعل تصنيفه في قسم السنة (القيادية) التي تفيد المباح هي الأصوب، فإذا كان ذلك كذلك فكيف تنتج السنة المباحة وجوبا كما قال أبو يعلى: "والدلالة عليه أنه ورد الشرع بالإمامة في قريش)، أو اجماعا كما قال الماوردي(أن يكون من قريش لورود النص فيه، وانعقاد الاجماع عليه"!!
*
1-قد فصلت في مقالات سابقة معاني هذا التقسم، فبأيجاز السنة التشريعية (= بيان الكتاب وشرحه)، والسنة القيادية (=ممارسته صلى الله عليه وسلم حقه في العمل القيادي في السياسية والإجتماعية والحرب والسلم)، والسنة الجبلية (=الأشياء التي فطر عليها، وتأثر بها من خلال البيئة الجغرافية والعرف
جزاك الله كل خير
و جعله في ميزان حسناتك
شكرا لك اخي العزيز
و جزاك الله خير على ماطرحته
بس موضوعك شوي في مفاهيم صعبه
في أشياء مافهمتها …!!
جزاك الله كل خير
و جعله في ميزان حسناتك
وجعله في سجل حسناتك