جادت قريحة أحد الأدباء في وصف مناسبة وداع العام فجرى قلمه بقوله :
" رأيت على الطر يق شبحاً يسير منهوكاً على الطريق الذي يلف السهل والوعر والجبل و البحر والصحراء والبساتين وكل ما تحتويه ومن يكون فيها على الطريق الطويل الذي يلوح كخط أبيض يغيب أوله في ظلام الأزل ويختفي آخره في ضباب الأبد . رأيت شبحاً يسير على طريق الزمان، وسمعت صائحاً يصيح بالدنيا النائمة : تيقظي تيقظي ، إن العام يرحل الآن ، أمن الممكن هذا ؟! أيحدث هذاكله في هدوء ؟ يموت في هذه الليلة عام، يمضي الراحل بذكرياتنا وآلامنا وآمالنا إلى حيث لايعود أبداً. ويقبل القادم فاتحاً ذراعيه، ليأخذ قطعة من نفوسنا وجزءا من حياتنا، ولا يعطينا بدلا منها شيئاً. هل الحياة إلا أعوام فوق أعوام ؟ وهل النفوس إلا الذكريات والآلام…" إلى آخر ما قاله أثابه الله .
أحبتنا في الله : إزف رحيل هذا العام فها هو يطوي بساطه، ويقوض خيامه، ويشد رحاله ( وكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ) . عام كامل، تصرمت أيامه وتفرقت أوصاله، وقد حوى بين جنبيه حكماً وعبراً، وأحداثاً وعظات، فلا إله إلا الله، كم شقي فيه من أناس، وكم سعد فيه من آخرين ؟ كم طفل قد تيتم، وكم من امرأة قد ترملت، وكم من متأهل قد تأيم؟ مريض قوم قد تعافى، وسليم قوم في التراب قد توارى، أهل بيت يشيعون ميتهم، وآخرون يزفون عروسهم، دار تفرح بمولود، وأخرى تعزى بمفقود، عناق وعبرات من شوق اللقاء، وعبرات تهلّ من لوعة الفراق، وآلام تنقلب أفراحاً، وأفراح تنقلب أتراحاً، أحد يتمنى دوام يومه ليتلذذ بفرحه وغبطته وسروره . أيام تمر على أصحابها كالأعوام ،وأعوام تمر على أصحابها كالأيام .
أحدهم يلقي عصا التسيار حيث استقر به المثوى، وآخر يضرب في الأرض طلباً للرزق والمأوى .
حضر فلان وغاب فلان، ومرض فلان، ودفن فلان، وهكذا دواليك، تغيَّر أحوال، وتبدل أشخاص،
فسبحان الله ما أحكم تدبيره، وما أجل صنعة، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويعطي من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله، وربك يخلق ما يشاء ويختار، أمور تترى، تزيد العاقل عظة وعبرة، وتنبه الجاهل من سبات الغفلة، ومن لم يعتبر بما يجري حوله، فقد غبن نفسه.
أحبتنا في الله : تختلف رغبات الناس ويتغاير شعورهم عند انسلاخ العام، فمنهم من يفرح، ومنهم من يحزن ومنهم من يكون بين ذلك سبيلاً .
فالسجين يفرح بانسلاخ عامه؛ لأن ذلك مما يقرّب موعد خروجه وفرجه، فهو يعد الليالي والأيام على أحر من الجمر، وقبلها تمر عليه الشهور والأعوام دون أن يشعر بها فكأنه يحاكي قول القائل :
وآخر يفرح بانقضاء العام، ليقبض أجرة مساكن وممتلكات أجّرها حتى يستثمر ريعها وأرباحها.
وآخر يفرح بانقضاء عامه من أجل ترقية وظيفية : إلى غير ذلك من المقاصد التي تفتقر إلى المقصد الأسمى وهو المقصد الأخروي، فالفرح بقطع الأيام والأعوام دون اعتبار وحساب لما كان فيها ويكون بعدها هو من البيع المغبون .
فالعاقل من اتعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعد لغده، ومن أعظم الحكم في تعاقب السنين وتغيّر الأحوال والأشخاص أن ذلك دليل على كمال عظمة الله تعالى يقول تعالى { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(3) الحديد} . " فهو الأول فليس قبله شيء والباطن فليس دونه شيء " فلا إله إلا الله ما أجل شأنه وأعظم قدره. { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ( 27)الرحمن } .
عباد الله : على العاقل أن يتدارك أوقاته، وأن يعد أنفاسه، وأن يكون حافظا لوقته شحيحا به، فلايفرط في شيء من لحظات عمره إلابما يعود عليه بالنفع في الدنيا والبرزخ والآخرة.
فا لعمر قليل والأجل قريب ، ومهما طال الأمد فلكل أجل كتاب . قيل لنوح عليه السلام ،وقد لبث مع قومه ألف سنة إلاخمسين عاما: كيف رأيت هذه الدنيا؟فقال :كداخل من باب وخارج من آخر. فيا من متعك الله بالصحة والعافية، فأنت تتقلب في رغد العيش والملذات، تفطن لسني عمرك، فربما يفجأك الأجل وأنت في غفلة عن نفسك فتعض أصابع الندم، ولات حين مندم، ولات حين مناص.ثم تذكر أن ذلك التنعم والترفه الذي كنت تتقلب فيه صباح مساء قد يعقبه ما ينسي لذاته كلها ،كما أن من عمر أوقاته بطاعة الله وهو يعيش في ضيق من الأمر وقد قدر عليه رزقه، قد يعقب ضيق عيشه ما ينسيه ألمه وفقره .قال عليه ا لسلام ( يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة ثم يقال له :يا ابن آدم، هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول :لاوالله يا رب! ويؤتى بأشد الناس الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة ،فيصبغ في الجنة صبغة ،فيقال له :ياابن آدم،هل رأيت بؤسا قط ؟هل مر بك شدة قط؟فيقول :لاوالله يارب !ما مربي بؤس قط ، ولارأيت شدة قط ) أخرجه الإمام مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه.
أحبتنا في الله : إن تعاقب الشهور والاْعوام على العبد، قد يكون نعمة له أو نقمة عليه، فطول العمر ليس نعمة بحد ذاته، فإذا طال عمر العبد ولم يعمره بالخير فإنما هويستكثر من حجج الله تعالى عليه، أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه أنه قال قال رسول الله عليه السلام : ( خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله ) .
عباد الله : إن هذا العام الذي ولى مدبراً قد ذهب ظرفه وبقي مظروفه بما أودع فيه العباد من الأعمال، وسيرى كل عامل عمله قال تعالى { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا (30) آل عمران } .
سيرى كل عامل عمله { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (42)الانفال} ، { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(46)فصلت } .
سيسأل العبد عن جميع شؤونه في الدنيا، وربه أعلم به، لكن ليكون الإنسان على نفسه بصيره، أخرج الإمام الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال :قال رسول الله : ( لاتزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند الله حتى يسأل عن خمس :عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وماذاعمل فيما علم؟ ). وفي رواية للترمذي أيضاً عن أبي هريرة قال :قال رسول الله : ( لاتزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه ما فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟ ) . فا لحذر الحذر من التفريط والتسويف.
فيا من ضيع عمره فيما لا ينفع، ألم تعلم أنك تستكثر الأثقال على نفسك وتزيد حجة الله عليك، فكم مرَّ عليك من الأعوام وأنت تتمتع بثوب الصحة والعافيه ومع ذا وذاك لم تؤد زكاة صحتك وعافيتك, بل أصبحت مغبونا فيهما لما ضاع عليك من الأعمال دون استثمار وتحصيل للآخرة.
عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ ) . أخرجه الإمام البخاري. والعجب أن بعض الناس يتفقد صحته صباح مساء ولايدخر جهداً ولا مالاً ولاوسعاً في الذهاب إلى الاستطباب كلما أحس بعارض, وهذا من فعل الأسباب المشروعة. لكن التناقض أن تراه غافلاً عن صلاح قلبه وجوارحه، وربما يشب ويشيب ويموت على ذلك.
فنسألك اللهم أن تصلح قلوبنا وأن تسخر جوارحنا في مرضاتك، اللهم وفق شيبنا وشبابنا. اللهم اجعلنا ممن طالت أعمارهم وحسنت أعمالهم ولا تجعلنا ممن طالت أعمارهم وساءت أعمالهم. اللهم أوزعنا شكر نعمتك وألبسنا لباس التقوى. اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين. اللهم اجعل عامنا الجديد عام صلاح وفلاح للإسلام والمسلمين.
اللهم اختم لنا عامنا بخير ، واجعل عواقبنا إلى خير, إنك سميع مجيب الدعاء .
تمنياتي بالفائدة للجميع
وجعله في ميزان حسناتك
وجعله في ميزان حسناتك
على هالطرح الرائع
وجعله ربي في ميزان حسناتك
وجعله المولى في ميزان حسناتك
الله يعطيك العافيه
وجزاكم الله الجنه